معرفة

اكتشاف الأدب المصري القديم!

لم تخلُ أرض مصر من صانعي الكنوز؛ فقد أهدتنا الحضارة المصرية القديمة كنوزًا من الأدب والفكر والفن، وإليك بعض الكتب المترجمة عن لغتها القديمة.

future أغلفة كتب: من اليمين «الأدب المصري القديم» «حكمة المصريين القدماء»

«إنه في أرض مصر. مصر التي يحفظ لها أجمل الذكريات، وأفتن الصور، وأبهج الآثار. إنه يود لو يترك وحيدًا فيملأ صدره من نسيمها العليل، ويمرغ خديه بثراها.. إنه في أرض مصر»..

—نجيب محفوظ، من روايته «كفاح طيبة»

طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقدين الأوليين من القرن العشرين، طغى الاهتمام بالأدب اليوناني القديم، والأساطير اليونانية والرومانية، فضلًا على الأدب العربي والآداب السامية، في مدار البحث عن النهضة الحديثة، على غيرها من الآداب والفنون التي تنتمي إلى حضاراتٍ أخرى وثقافات مغايرة (المصرية، والفارسية، والعراقية، والصينية.. إلخ).

ربما كان يعود ذلك — بشكل أو بآخر — إلى عدم اكتمال معرفتنا بما خلفته حضارة مصر القديمة من نصوص وآداب وحكم ومواعظ، ولم تكن الاكتشافات الأثرية قد منحتنا بعد ما نستطيع أن ندرسه ونقيمه ونكتب عنه..

البحث الأثري وتعلم اللغة القديمة

إلى أن قيّض الله لهذا الأمر جيلًا رائدًا عظيمًا من رواد البحث الأثري والمتخصصين في الحضارة المصرية القديمة، استطاعوا بجهدهم ودأبهم أن يتعلموا اللغة المصرية القديمة ويقرأوا خطها المنقوش على الجدران (الهيروغليفية) ويتقنوها، وأن يتمكنوا من قراءة النصوص المحفورة على جدران المعابد وجوانب المسلات الشاهقة، وعلى التوابيت، وكذلك قراءة ما حوته أوراق البردي التي أخذت تُكتشف تباعًا.

فطوال خمسة آلاف سنة، أو يزيد، لم تخلُ أرض مصر من حاملي الكنوز وصانعي الكنوز؛ أنتجت الحضارة المصرية القديمة كل أنواع الكنوز؛ أدبًا وفكرًا وفنًا ورسمًا ونقشًا ونحتًا ومركبًا وصندلًا وقصة وبردية وحكمة ومثلًا.. وشخصيات خيالية عاشت في وجدان البشرية قبل أبطالها الخياليين الآخرين بآلاف السنين!

وكان لافتًا ومثيرًا للاهتمام في فترة القراءات المبكرة النهمة، أن أقع على كتب كثيرة خُصصت بأكملها لموضوعات تتصل بالأدب المصري القديم، الحكم والأمثال والمواعظ، القصص والحكايات والأساطير، وأخذ كتاب يقود إلى آخر، واكتشفت وفرة حقيقية بأقلام مصرية معاصرة خصّصت لهذا الجانب من الحضارة المصرية القديمة جهدًا ووقتًا أثمر العديد من الأعمال والكتابات والنصوص..

أحببت الأدب المصري كله (قديمه ووسيطه وحديثه)، وأدركت عظمته وجوانب الرقي والرفعة فيه، وأنه سبق في الأدب والفنون، مثلما سبق في كل مناحي الحياة والحضارة. وانفتحت الشهية على آخرها لقراءة كل ما يتيسر من كتب ودراسات ومتون عن الأدب المصري القديم، والحياة المصرية القديمة.

سلسلة المصريات

وهنا لا بد من الاعتراف بأنه لولا مشروع (مكتبة الأسرة) والسلسلة الرائعة العظيمة (المصريات)، التي كانت تصدر ضمن سلاسلها الباهرة القيمة، ما كان تيسر لي ولا لغيري عشرات الآلاف أن يقرأوا تاريخ مصر القديمة، وجوانب الحضارة المصرية القديمة، وأن يعرفوا الكثير ليس فقط عن تاريخ الأسرات، والآثار المشهورة مثل الأهرامات وأبو الهول، بل أيضًا عن الجوانب المختلفة من الحياة اليومية المصرية، وعن الفن، والطب، والمرأة، والفنون، والفلك، والتحنيط، والرسم، والمسلات... وكل ما يتصل بهذه الحضارة العامرة الخالدة..

وتداعت في ذاكرتي عشرات الصور والأغلفة والكتب والأسماء؛ واكتشفت أن من كنوزنا المخفية نصوص الأدب المصري القديم؛ بكل ما قدمه من حكم وأمثال، وقصص وحكايات شعبية، سُجلت على جدران المعابد وأسقف المقابر وأوراق البردي؛ وتذكرت السفر العظيم جدًا الذي كتبه شيخ شيوخ علم المصريات والآثار المصرية القديمة «الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة» في جزئين، وهو الذي ألحقه بموسوعته الفذة الضخمة العظيمة «مصر القديمة» في 18 مجلدًا.

لكن ظهوره الأول (بالنسبة لي)، مستقلًا في جزئين، كان في سلسلة «كتاب أخبار اليوم» التي كان يشرف عليها ويرأس تحريرها — آنذاك — المرحوم جمال الغيطاني، كانت طبعة عتيقة ونادرة، بورقها الأصفر الناعم، وحرفها الصغير الدقيق جدًا والمرهق جدًا في القراءة!

في هذا الكتاب قرأت لأول مرة عن قصص وحكايات وشكاوى الفلاح الفصيح، وسنوحي المصري، وعرفت أقوال وحكم الحكماء المصريين القدماء العظيمة التي توصي بالرحمة والانتماء إلى الوطن والأسرة والتكافل الاجتماعي وتقديس الأم وحب الحياة وتقدير القيمة.. إلخ.

صحيح أنه توالت بعد ذلك الكتب والمؤلفات المعاصرة والتالية لكتاب سليم حسن التي تعرض لهذا الجانب الرائع المبهر من الحضارة المصرية القديمة؛ الأدب والحكمة والمواعظ والقصص والأمثال، لكن ظل كتاب عميد الأثريين المصريين وشيخهم الأكبر الدكتور سليم حسن «الأدب المصري القديم» بجزئيه فريدًا في بابه، غنيًا بنصوصه، مستوعبًا لموضوعاته..

لكن غزارة المادة واتساعها وتعدد مصادرها القديمة، فضلًا على حجم الكتاب الكبير نسبيًا، استدعت تاليًا أن يتصدى البعض من دور النشر المعاصرة بذكاء والتفات إلى ضرورة الانتقاء والاختيار وحسن العرض من بين نصوص الكتاب الكبير الذي ألفه الدكتور سليم حسن، وإعادة طرحها في شكل موجز مختصر وفي حجم الجيب، يضم نصوصًا مختارة بعناية لتمثيل جوانب من الأدب المصري القديم؛ أو كما كُتب في ديباجة التقديم لهذه النصوص: "يحتوي الكتاب على مقاطع مختارة ومحررة مأخوذة من الجزء السابع عشر «الأدب المصري القديم» من موسوعة «مصر القديمة» لسليم حسن".

هكذا ظهر إلى النور هذا الكتيب الرائع النادر «حكمة المصريين القدماء» الذي صدر في طبعة أنيقة عن دار الكرمة بالقاهرة (قبل سنوات قليلة) في إطار سلسلتها الممتازة (تراثيات الكرمة).

أهم نصوص الحكمة القديمة

وقد احتوى هذا الكتاب القيم، صغير الحجم (إذ لا يتجاوز الـ 136 صفحة من قطع الجيب) العظيم في قيمته، على أهم نصوص الحكمة والأمثال والنصائح والتعاليم المصرية القديمة التي جمعها ورتبها وترجمها عن اللغة المصرية القديمة مباشرة الرائد الأثري الكبير سليم حسن (1893–1961)؛ عميد الأثريين المصريين والعرب، وشيخهم المُبرز، وصاحب الاكتشافات الأثرية المذهلة، والمؤلفات والكتب المهمة والدراسات غير المسبوقة، وعلى رأسها موسوعته الضخمة المعجزة «مصر القديمة» في ستة عشر جزءًا يصل حجم الجزء الواحد منها إلى ما يزيد على خمسمائة صفحة، وقد تصل في بعض الأجزاء إلى سبعمائة صفحة!

تم اختيار النصوص من أبرز ما وصلنا من تعاليم وحكم ونصائح وشكاوى لأشهر حكماء ووعّاظ مصر القديمة الذين وصلتنا أعمالهم وأسماؤهم على السواء؛ لعل من أشهرهم على سبيل المثال: بتاح حتب، كاجمني، وسحتب أبرع، وآني، وأمنموبي، والحكيم أيب-ور..

وسأكتفي بإيراد بعض النماذج الدالة على رقي ورفعة هذه النصوص (حكم، مواعظ، أمثال، تعاليم، ونصائح.. إلخ) سواء في مضمونها الإنساني والأخلاقي الرفيع، أو في مغزاها الفلسفي والتأملي بعيد الغور، والذي يصلها بنظائرها وأشباهها في الحضارات القديمة والثقافات العريقة:

«لم أقتل، لم آمر بقتل أحد، لم أشته زوجة جاري، لم أدنس نفسي، لم أكذب، لم أسرق، لم أشهد زورًا، لم أملأ قلبي حقدًا، لم أكن سببًا في دموع إنسان، لم أكن سببًا في شقاء حيوان، لم أُعذب نباتًا بأن نسيت أن أسقيه ماءً، أطعمت الجائع ورويت العطشان وكسوت العريان، كنت عينًا للأعمى، ويدًا للمشلول، ورجلًا للكسيح، لم ألوث ماء النيل، ملأت قلبي بماعت الحق والعدل والاستقامة».

—من مدونة قوانين ماعت إلهة العدل عند قدماء المصريين

«لا تشتبكن في جدال مع أحمق. ولا تجرحه بالألفاظ. تأنَّ أمام متطفل، وأعرض عمن يهاجم. ونَمْ ليلة قبل التكلم. لأن العاصفة تهب مثل النار في الهشيم، والرجل الأحمق في ساعة غضبه يجب أن تنسحب من أمامه واتركه لمكايده (أو سامحه فيها)، والله يعلم كيف يجزيه.. وإذا أمضيت حياتك واعيًا هذه الأشياء في قلبك فإن أولادك سيبصرونها».

—من تعاليم أمنموبي

«إذا أصبحتَ عظيمًا بعد أن كنتَ صغيرَ القدر، وصرتَ صاحبَ ثروةٍ بعد أن كنتَ محتاجًا... فلا تنسينَّ كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تتغنَّ بثروتك التي أتت إليك منحةً من الإله (الملك)، فإنك لستَ بأحسن من أقرانك الذين حلَّ بهم ذلك (أي الفقر)».

—من حكم بتاح حتب

«إذا كنتَ تبحث عن أخلاق مَن تريد مصاحبته فلا تسألنَّه، ولكن اقترب منه وكُنْ معه، وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشى شيئًا قد رآه، أو أتى أمرًا يجعلك تخجل له؛ فاحذر عندئذٍ حتى من أن تجيبه»..

—من حكم بتاح حتب

(وللحديث بقية)

# أدب # فن # كتب # تاريخ مصر

«غروب وشروق»… إحدى درر الكلاسيكيات المرممة في مهرجان القاهرة السينمائي
10 أفلام مرشحة للمشاهدة في مهرجان القاهرة السينمائي 2025
أخناتون العائش في الحقيقة

معرفة